
تُعدّ منطقة القبائل، الواقعة في شمال الجزائر، والموطن التاريخي للسكان الأمازيغ القبائل، من المناطق التي تميّزت عبر التاريخ بتقاليد راسخة من الاستقلال المحلي ورفض السلطة المركزية. وبفضل طبيعتها الجبلية الوعرة ومؤسساتها الجماعية العميقة الجذور، ظلّت القبائل تاريخيًا خارج الاندماج الكامل في البُنى السياسية التي حكمت المناطق السهلية المجاورة.
الاستقلال قبل الاحتلال الفرنسي
خلال العهد العثماني (من القرن السادس عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر)، لم تمارس إيالة الجزائر سوى نفوذ شكلي ومحدود على منطقة القبائل. فقد اعتمد الحكم العثماني أساسًا على التفاهمات والاتفاقات، لا على الإدارة المباشرة. وكانت العديد من القرى والقبائل القبائلية تدفع إتاوات رمزية أو تحافظ على علاقات دبلوماسية مع ممثلي السلطة، لكنها رفضت باستمرار وجود حاميات دائمة أو فرض الضرائب أو الخضوع لحكم مركزي.
كان المجتمع القبائلي منظّمًا حول المجالس القروية (تاجماعت)، التي كانت تُنظّم الشؤون السياسية والقضائية والاجتماعية عبر التشاور الجماعي. وقد ساد القانون العرفي (قانون) على التشريع الديني أو الإمبراطوري، مما عزّز نظامًا لا مركزيًا تستمد فيه السلطة شرعيتها من الإجماع الجماعي لا من الهرمية السياسية. ولم يكن هذا الاستقلال جغرافيًا فحسب، بل كان مؤسسيًا وثقافيًا أيضًا.
مشروع عبد القادر للتوحيد الإسلامي
برز التوتر بين القبائل والسلطة المركزية بشكل واضح خلال صعود الأمير عبد القادر (1808–1883). فقد أُعلن أميرًا سنة 1832، وسعى إلى تنظيم مقاومة الاحتلال الفرنسي من خلال إنشاء دولة إسلامية مركزية قائمة على الجهاد والشرعية الدينية. وكان مشروعه يهدف إلى توحيد مختلف مناطق الجزائر تحت إمارة منظّمة تجمع بين التعبئة العسكرية والجباية والإدارة الدينية.
بين عامي 1838 و1839، حاول عبد القادر توسيع سلطته إلى منطقة القبائل. فطالب شيوخ القبائل بالبيعة، ودفع الزكاة، ودمج المقاتلين القبائل في جيشه. ولتنفيذ سلطته، عيّن خلفاء (نوابًا)، أبرزهم بن سالم، الذي كُلّف بإدارة شؤون القبائل بين عامي 1839 و1843.
رفض القبائل ومقاومتها
رغم المكانة الدينية للأمير عبد القادر بوصفه مرابطًا وشريفًا (من نسل النبي محمد)، رفضت القبائل الخضوع له بشكل واسع. وقد أشار الضابطان الفرنسيان أوجين دوما وبول فابار في كتاب القبائل الكبرى: دراسات تاريخية (1847) إلى أن الأمير «لم يتمكّن من كسب القبائل بالإقناع»، رغم محاولاته المتكررة.
تعود أسباب هذا الرفض إلى عدّة عوامل. فقد رأى زعماء القبائل أن مشروع الدولة الإسلامية المركزية يتعارض مع ثقافتهم السياسية اللامركزية. كما أن اعتماد الأمير على خلفاء معيّنين اصطدم بسلطة المجالس القروية، في حين اعتُبر فرض الزكاة مساسًا مباشرًا بالاستقلال الجماعي. وساهمت النزاعات القبلية القديمة، إلى جانب الشك المتجذّر تجاه أي سلطة خارجية—سواء عثمانية أو عربية أو استعمارية—في إضعاف نفوذ عبد القادر.
وقد تعزّز هذا الشك بسبب المفاوضات التي أجراها الأمير مع الفرنسيين، بما في ذلك الهدنات والمعاهدات، والتي فسّرها بعض زعماء القبائل على أنها براغماتية سياسية. ولم تُفلح الغارات أو الإجراءات القسرية في تحقيق ولاء دائم. وفي فعل رمزي يعكس الثقافة السياسية القبائلية، قامت بعض القبائل بمرافقة عبد القادر خارج أراضيها تحت نظام العناية (اللعناية)، بما يعني احترام شخصه مع رفض قاطع للخضوع له.
الإسلام والاستقلال: تمييز جوهري
من المهم التأكيد أن مقاومة القبائل لعبد القادر لم تكن معارضة للإسلام ذاته. فالقبائل كانوا، ولا يزالون، مسلمين في غالبيتهم الساحقة. بل كان الرفض موجّهًا إلى مركزة السلطة الدينية ودمج الجهاد في مشروع دولة مفروضة من الخارج. وبالنسبة للقبائل، لم يكن مشروع الإمارة تحريرًا، بل استبدالًا للنفوذ العثماني البعيد بشكل جديد من الهيمنة، هذه المرة بصيغة سياسية عربية-إسلامية.
النتائج التاريخية والإرث
كان لفشل عبد القادر في إخضاع القبائل آثار بعيدة المدى. فمع غياب بنية مقاومة موحّدة، تمكّنت القوات الفرنسية لاحقًا من إخضاع القبائل بين عامي 1851 و1857، مستغلة الانقسامات الداخلية وغياب القيادة المركزية.
وبشكل أوسع، تُجسّد هذه المرحلة نمطًا تاريخيًا متكرّرًا في تاريخ القبائل: تقديم الاستقلال المحلي والحكم الجماعي والقانون العرفي على الخضوع للسلطة السياسية أو الدينية المركزية. وغالبًا ما يستشهد الباحثون بهذا الإرث لفهم استمرار النزعات العلمانية والتعدّدية والشك في الأيديولوجيات المفروضة في الثقافة السياسية القبائلية المعاصرة.
خاتمة
تُبرز مقاومة القبائل للأمير عبد القادر توترًا بنيويًا بين مشاريع الدولة الإسلامية المركزية والبنى الاجتماعية الأمازيغية اللامركزية. ولم تكن هذه المقاومة استثناءً، بل تعبيرًا عن توجّه تاريخي راسخ نحو الديمقراطية القروية والسيادة الجماعية. ولا يزال إرث هذا الصراع في القرن التاسع عشر يُلقي بظلاله على النقاشات المعاصرة حول الهوية والحكم والعلمانية في القبائل وما وراءه
Source
-
Eugène Daumas & Paul Fabar, La Grande Kabylie: Études historiques (1847)
-
Archive source: http://aj.garcia.free.fr/grande_kabylie/
Share this content: